أصبحنا كالقطيع نتحرّك جميعنا بأتجاهِ واحد، لا أقصد في العمل السياسي و التحرّك الأجتماعي الأصلاحي في سبيل الخلاص و السعي نحو الأستقرار و الوصول للأزدهار، فذلكم هو السبيل الوحيد لخلاصنا في العراق، لكنني أقصدُ في المُتبنيات الفكرية و القناعات السلوكية و الآيديولوجيات الساندة لها. ربما أصبحنا ننطلق في سلوكنا و ملابسنا و أذواقنا بل و في آرائنا و عقائدنا متأثرين و مدفوعين بما نشرته و كرّرت نشره وسائل الأعلام و أدواتها المختلفة و صورها الجديدة و أشكالها المتعدّدة، و أهمها الوسائل الفردية و الشخصية: أعني تلك التي يجلس الفرد معها لوحده منقطعاً عن تأثيرات الآخرين و صخب العالم و يتلقّاها و يتفاعل معها لكنه في الحقيقة هو ليس وحده بل هو كالمُمثل تراه في الفيلم يجلس لوحده متقرّفصاً في غرفته واضعاً رأسه بين ركبتيه و يبكي بنحيبٍ عالٍ، يبكي إعراضَ حبيبته و جفاءها له. أننا نراهُ وحيداً على شاشة التلفزيون فقط، بينما واقعاً هو يجلسُ هناك وسط حشد من المصورين و المخرج و قارئ النص و حامل الميكروفون و مسؤولي المكياج و الديكور و المساعدين و الفنيين و غيرهم. و فوق ذلك أنه لم يكن يعبِّرُ عن مشاعره الحقيقية بل هو يمثِلُ دور الحبيب المهزوم و المأزوم، و هكذا أصبح أنفرادنا ليس أنفراديّاً!! فنحن عندما نقرأ و نكتب في وسائل التواصل الأجتماعي نعلمُ علم اليقين أننا نريد أن ننقل هذا للآخرين طمعاً في تفاعلهم و ردودهم التي نريدها أيجابية و هي دائماً تكون أيجابية فهم لن يبخلوا علينا بها، لأنهم أيضاً يحتاجون منا مثلها عند الأستجابة لما ينشروه. نجلس وحيدين في زاويةٍ من زوايا الغرفةِ لكننا وسط حشدٍ من البشرية ترانا و تراقبنا و تستجيبُ لنا فوراً! أنه ليس أنفرداً لأجل التفكّر في أمرٍ ما أو للبحث في قضية معينة، و لحساب المرء الخاص و لمنفعته الشخصية و لطمأنينة نفسيته، كلا أنه لأجلِ أحدٍ آخر. في كتابالله تعالى وجدتُ نصّاً عن الوحدانية في التفكّر بهدف التوصّلِ للقرار بشكل حرٍ و سليم بعيداً عن التأثيرات الأجتماعية أعني تأثيرات القطيع! فيقول تعالى: )) قل أنَّما أعِظكُم بواحدةِ أن تقوموا لله مثنى و فرادى ثمَّ تتفكّروا … (( سورة سبأ آية رقم 46 في زمن مناعة الجميع التي أوصلتنا أليها الكورونا- كوفيد 19 – اضطررنا الى أن نجلس في بيوتنا أشهراً إما لوحدنا أو مع عوائلنا، فكانت فرصةً ذهبيةً و فريدة لم تشهدها البشريةُ من قبل، لمَنْ أراد أن يكتشف نفسه مُجدداً و أراد أن يُراجعَ و يقوِّم و يقيِّمَ متبنياته، و لمَنْ أراد أن يختبر مدى أنسجامه مع عائلته و درجة أُلفته معها، أو أراد أن يتوجّه مُتعرِّفاً على خالقه باحثاً عن العلاقة الحقيقية معه تعالى و عن واقعيّةِ تلك العلاقة. لكن الكثير منّا كانت تلك الفترة بالنسبة لهم سياحة أجبارية و أصرار في الذوبان في القطيع عن طريق الأدمان على الموبايل كآلة للتواصل القطيعي لملء الفراغ في أنفسهم و الذي لا يريدون أن يواجهوه و لا يقوَوا على تناوله و تقليب الوجوه في اسبابه و طبيعته الحقيقية فأزدادوا أنمساخاً في الروح و الفكر و أزدادتْ كروشهم حجماً و برزتْ الخدود و غارت العيون، و توغّلوا في الغربة و السلبية الواقعية، و وصلتْ كآبتهم الى زوايا ما كانت لتصلها في زحمة العمل و الخروج و الواجبات الأجتماعية في زمن ما قبل الكورونا. لكن يبقى النداء الألهي يصرخُ فينا بحقيقةٍ مُرعبةٍ تقضُّ مضاجعنا و لا نقوى على مواجهتها: )) و . لقد جئتمونا فُرادى كما خلقناكم أوَّلَ مرةٍ و تركتم ما خوّلناكم وراء ظهوركم(( سورة الأنعام آية 94