يعدّ اللون من أقوى أدوات السرد السينمائي، وهو عنصر مهم يضيف إلى السرد القصصي المرئي للفيلم، ليجذب استجابة عاطفية أو نفسية معينة من الجماهير، حتى أن بعض الألوان أصبحت اختصارا لعواطف وأفكار وأيديولوجيات محددة، مما يجعل العثور على التراكيب اللونية الخاصة بكل فيلم استكشافا مثيرا لنظرية الألوان.
قد يستخدم صناع العمل أكثر من خطة لونية، مثل: الخطة الأحادية اللون، وتعتمد على تمديد صبغة لون واحد باستخدام الظلال وإضافة اللونين الأبيض والأسود فقط على اللون الأصلي، مثل المشاهد الأحادية اللون في فيلم “ماتريكس” (Matrix).
ومثل خطة استخدام الألوان المكملة، وهما كل لونين متقابلين على عجلة الألوان، مثل الأحمر والأخضر الذي يظهر كل منهما اللون الآخر بقوة، وقد استعملا في فيلم “أميلي” (Amélie).
أما الخطة الأخيرة فقائمة على استخدام الألوان المتجاورة في دائرة اللون لتخلق نوعا من الوحدة البصرية، كما فعل ستيفن سودربيرغ في فيلم “ترافيك” (Traffic).
كيف تحكي قصة من خلال اللون
بالرغم من أن لكل لون تاريخا عرف به، أو تأثيرا عاطفيا ونفسيا متأصلا، فإن صناع كل فيلم يمكنهم اختيار وتحديد ما تمثله الألوان المختلفة داخل عملهم الخاص بعيدا عن السياقات النفسية التي ارتبط بها اللون، حتى أن المخرج يمكن أن يعكس المفاهيم المتداولة عن اللون ويحولها إلى النقيض، بدلا من استخدام الضوء والظلال لرواية القصة.
فاللون يخلق صورة دراماتيكية تعزز رؤية المخرج التي تصبح أكثر إبداعا عند كسر رمزيات اللون، ليعطي حالة شعورية غير معتادة عن طريق غمر المشهد كله بلون واحد أو درجات ألوان محددة، تعمل على سرد القصة على مستوى اللاوعي، مما يجعل مشاهدة الفيلم تجربة شعورية غامرة.
عالم من الوحدة في فيلم “هير”
من يتابع فيلم “هير” (Her) يجد أن من أهم عناصره: اللون الأحمر بدرجاته المختلفة، الذي صنع عالما مغايرا للفيلم. وقد أشارت درجات الأرجواني الشاحب والأحمر بدرجاته الباهتة إلى وحدة البطل وعزلته وحالته العاطفية والشعورية ورغبته في الحب، بينما تحول اللون إلى الأحمر الزاهي وسط الظلال الصامتة للألوان الترابية بعد ظهور “سامنثا” التي أحبها وارتبطت بالكامل باللون الأحمر والوردي.
ونلاحظ التوازن في استخدام اللون الأحمر دون إفراط، حيث وجدت مشاهد فيها الكثير من اللون الأحمر، ومشاهد أخرى اقتصر فيها اللون الأحمر على نقطة أو نقطتين صغيرتين.
ويبدو الفيلم بالكامل كأنه مصور من خلف ستارة أرجوانية نصف شفافة، كما لو كان استراحة بصرية من الألوان المألوفة والتشويش البصري في الحياة، وكأن شخصا ما أغمض عينيه في عصر يوم هادئ وانغمس في عالم ضبابي أثناء قيلولته.
حرب لا تنسى في “دونكيرك”
ليس من السهل أن ينسى المشاهد عوالم فيلم “دونكيرك” (Dunkirk) لكريستوفر نولان، ومن أهم أسباب ذلك هو المزاج اللوني العام للفيلم، حيث اختار نولان لوحة لونية محدودة للغاية: سماء زرقاء وغيوما بيضاء، اللون البيج الباهت للشاطئ الفرنسي، والرمادي الغامق للقناة الإنجليزية، والزي العسكري باللون البني الباهت، مع الخوذات الخضراء فوق وجوه الجنود الشاحبة، ليبدو كأن المخرج قرر حجب بعض الألوان من الطيف أثناء المعالجة البصرية للفيلم، لكنه كسر ذلك الثبات اللوني عن طريق لمسات ضوئية أكثر إشراقا ظهرت في صورة صليب أحمر، أو أجنحة صفراء لمقاتلة ألمانية.
لكنه في الوقت نفسه أبقى على الحالة الشعورية للفيلم الذي يدور في أجواء حربية عصيبة، قنبلة تلو قنبلة ورصاصة تلو رصاصة وطوربيد تلو طوربيد، صحاري مقفرة وانفجارات وجثث، بينما ينتظر الجنود بالآلاف سفنا قد لا تأتي أبدا.
عزز الطابع اللوني الذي اختاره نولان ذلك الجو المليء بالرهبة والدراما النفسية، خاصة مع انتظار الجنود الموت الذي يمكن أن يهبط عليهم في أي وقت.
3 مجموعات لونية مختلفة في فيلم “ترافيك”
يركز فيلم “ترافيك” (Traffic) للمخرج ستيفن سودربيرغ على 3 قصص متوازية تترابط فيما بينها بواسطة المخدرات، بينما تنفصل القصص الثلاث من خلال اللون، حيث استعمل سودربيرغ مرشحات لونية مختلفة ليصنع لكل قصة شخصية مميزة.
تدور القصة الأولى في المكسيك، حيث يتورط ضابط شرطة في شبكة من الفساد تضم ضباطا سيئي السمعة مع تجار المخدرات. صورت المشاهد المكسيكية بتباين عال مع لون أصفر باهت، لتعكس أجواء الشوارع الخلفية المتربة للمكسيك والحرارة العالية والمطاردات التي لا تتوقف بين الشرطة ورجال العصابات.
واعتمدت القصة الثانية على اللون الأزرق، لتعكس الحياة المظلمة للفتاة المراهقة المدمنة على الكوكايين ابنة القاضي المحافظ المسؤول عن تتبع عصابات المخدرات في البلاد، لتبدو المشاهد أكثر برودة وحداثة من المشاهد في القصة السابقة. بينما في القصة الأخيرة التي تدور حول زوجة تاجر مخدرات تحاول إثبات براءة زوجها، نجد سودربيرغ قد اعتمد الإضاءة الطبيعية لإضفاء شعور بالدفء على الحكاية.
من خلال الانتقال اللوني، تجنب سودربيرغ وجود لحظات انتقال بين المشاهد مما سيؤدي إلى كسر التدفق وإضافة المزيد من الثقل والوقت الإضافي للفيلم الطويل بالأساس، وبالرغم من أن الفيلم يحاكي الواقع، لكنه ليس واقعيا، لأن درجات اللون المختلفة لكل قصة نقلت المشاهد إلى حالة حسية عالية خارج الواقع.