يعود المخرج الأميركي مارتن سكورسيزي إلى الأستوديوهات مع فيلمه “عصابات نيويورك” 2002 (Gangs of New York)، وذلك لإعادة تقديمه في صورة مسلسل، ويخرج سكورسيزي أول حلقتين منه.
وقال سكورسيزي في تصريح صحفي “إن مرحلة تأسيس الولايات المتحدة والحرب الأهلية وتراثها غني بالشخصيات والقصص التي لم نتمكن من اكتشافها بالكامل في فيلم مدته ساعتان، والمسلسل التلفزيوني يتيح لنا الوقت والحرية الإبداعية. لإعادة هذا العالم الملون، وكل الآثار التي كان وما زال يحدثها على مجتمعنا، إلى الحياة”.
قام كاتب السيناريو بريت ليونارد بتطوير قصة الفيلم، وإضافة شخصيات جديدة تمامًا، استنادًا إلى كتاب هربرت أسبري لعام 1927، حيث ركز فيلم سكورسيزي الأصلي على عصابات الجريمة المتنافسة في شوارع نيويورك.
وفيلم “عصابات نيويورك” من بطولة ليوناردو دي كابريو ودانيال داي لويس وكاميرون دياز، وقد أصبح الفيلم خامس أعلى فيلم يحقق أرباحًا في مسيرة سكورسيزي المهنية وحصل على 10 ترشيحات لجوائز الأوسكار، بما في ذلك أفضل فيلم ومخرج وسيناريو أصلي ورشح دانيال دي لويس لأوسكار أفضل ممثل رئيسي.
معادلة القوة
ويعد “عصابات نيويورك” واحدا من أحلام سكورسيزي الكبرى وقد ظل في الأدراج لـ30 عاما حتى تم تنفيذه، وتحمل أغلب أفلام مارتن سكورسيزي هَما مختلفا عن غيره من مبدعي جيله من أساتذة هوليود، وتؤكد على وجود تلك العلاقة التي ربطت بين عصابات الشوارع والمافيا بشكل خاص من جهة، ورجال السياسة من المؤسسين الأوائل للولايات المتحدة من جهة أخرى.
ويلح الرجل في طرح الفكرة بتجليات مختلفة لم تكن آخرها تلك التي قدمها في فيلم “الرجل الأيرلندي” 2020 (The Irishman)، ويرى المخرج العجوز أن الولايات المتحدة هي معادلة قوة نتجت عن اتحاد الساسة عبر نفوذهم ورجال العصابات عبر قوتهم، لتشكيل مؤسسات تحتفظ بمساحات خاصة للجميع دون أن يعتدى أي مكون على الآخر، وإلا جاء الحل أحيانا في صورة جريمة قتل بلا حل مثل اغتيال جون كينيدي 1963 أو اختفاء الزعيم العمالي جيمي هوفا عام 1975.
ولم يكن فيلم “عصابات نيويورك” إلا تجسيدا لتلك القناعة، حيث استعرض وصول المهاجرين الأيرلنديين إلى الولايات المتحدة في منتصف القرن الـ19 بينما تدور رحى حرب أهلية بين أطراف عديدة سببها قرار أبراهام لنكولن بتحرير العبيد. كان رد فعل المهاجرين الأقدم هو تشكيل عصابات تسعى إلى قتل أو إعادة المهاجرين الجدد من حيث أتوا.
ثأر قديم
تدور أحداث فيلم “عصابات نيويورك” في أوائل ستينيات القرن الـ19، حيث يعيش مجموعة من البشر في واحد من أسوأ الأحياء السكنية في تاريخ الإنسانية بمنطقة مانهاتن السفلى، ويعرف باسم “فايف بوينتس” أو النقاط الخمس. كان بيل “الجزار” أو كاتينغ (قام بدوره الممثل دانيال دي لويس) هو القائد الأعلى للمنطقة المليئة بالجريمة والدعارة والسرقة والقتل، وكانت الحرب الأهلية الأميركية قائمة بين ولايات الشمال والجنوب.
يعود الأميركي الأيرلندي أمستردام فالون (الممثل ليوناردو دي كابريو) بعد 16 عامًا كاملة من قتل والده للانتقام، فقد شهد قتل والده في معركة دموية بين عصابتي “الأرانب الميتة” الأيرلندية بزعامة أبيه وعصابة “الأصليين” بزعامة بيل الجزار، يومها قتل الأب على يد بيل.
كانت الأعوام الـ16 التي قضاها أمستردام في دار للأيتام كفيلة بتغيير كل ملامح الحي وتحويل مجرد النطق باسم عصابة والده إلى جريمة كفيلة بقتل صاحبها، بل وبتحويل يوم مقتل الأب إلى عيد سنوي. تحول بيل الجزار الآن إلى أسطورة حية لا يستطيع أحد الاقتراب منها بسهولة. ثمة طريقة واحدة للاقتراب وهي أن يعمل أمستردام لصالح قاتل والده.
يستعرض الفيلم الفوضى والتخلف والسلوك المتوحش لعصابات الحي والأحياء المجاورة، حيث لم يكن المهاجر القادم من خارج الولايات المتحدة يستطيع أن يعيش دون أن ينضم إلى واحدة من تلك العصابات، وبينها القبعات القبيحة، والذيول القصيرة والأصابع الطويلة، وغيرها.
يختار المرشحون للبرلمان الأميركي والساعون إلى تغيير ذلك الواقع الأشخاص الأقوياء وأصحاب النفوذ لإقناعهم بقرار التجنيد الإجباري الذي فرض على شباب الولايات، ولا يوجد أقوى من بيل الجزار وأشباهه من زعماء العصابات الكبرى.
دي كابريو
كان ليوناردو دي كابريو قد حجز مكانه في القلوب عبر دور جاك الشاب الذي يضحي بحياته لإنقاذ حبيبته في فيلم “تيتانيك” 1997 للمخرج جيمس كاميرون، لكن أداءه الذي كان أقرب للرومانسية ظل مثل ثوب صغير، تضيق به قدراته التمثيلية الهائلة، وجاء دور أمستردام فالون، والساعي لتحقيق ثأر دموي هو الخطوة الموفقة التالية لاستعراض تلك الموهبة الجبارة.
تبدأ أولى مشاهد دي كابريو أثناء وداعه للقس المشرف عليه في دار الأيتام بعد بلوغه السن القانونية للخروج، يعطيه القس نسخة من الكتاب المقدس، وما أن يخرج أمستردام فالون الشاب من الدار ويتجه إلى أحد الجسور حتى يلقي الكتاب المقدس في النهر.
احتفظ وجه دي كابريو منذ هذه اللحظة بتعبير ينم عن كراهية وحقد دفين للعالم وإرادة للانتقام، حتى في تلك المشاهد التي ظهر خلالها مع أصدقائه الجدد. التقط دي كابريو نمطا نادرا من الأشخاص الذين يندر أن يقابلهم الواحد منا في الحياة اليومية. شخص عادي تماما، يتحرك ويعمل، ويجلس لقضاء الوقت في المقهى، ويشارك في مناسبات اجتماعية، لكنه منفصل تماما، عقله معلق في مكان ما، وروحه حبيسة لحظة مغايرة.
ذلك النمط الذي أكد أن أمستردام حبس في المشهد الثاني من الفيلم، إذ تخرج عصابة “الأرانب الميتة” بزعامة والده المشهور باسم فالون القس (الممثل ليام نيسون)، لتدافع عن نفسها ضد الأصليين.
كان العداء بين جيلين من المهاجرين الأيرلنديين، الجيل الأقدم الذي عاش وأنجب في الولايات المتحدة منذ بداية اكتشافها، والجيل الجديد من المهاجرين والذين كان معدل تدفقهم أسبوعيا يصل إلى 15 ألف مهاجر.
يقف السياسيون والمرشحون للبرلمان بين أطراف الصراع سواء كان ذلك الصراع حول المال في سرقة أو تجارة مخدرات صريحة، أو كان حول تحرير الأفارقة المستعبدين بعد صدور قرار أبراهام لنكولن بتحريرهم أو قرار فرض التجنيد الإجباري للمشاركة في الحرب.
يستضاف بيل الجزار أو زعيم العصابة الدموية المتخصصة في السرقة والنهب والقتل والتطهير العرقي في منزل أحد كبار السياسيين ويعامل كضيف شرف، ويتم الاتفاق معه على إبرام صفقات إقناع أتباعه بواحد من تلك القرارات مقابل التغاضي عما تقوم به عصابته.
يقترب الشاب أمستردام فالون من بيل الجزار، ويصبح واحدا من رجاله، وحين ينوي الشاب تنفيذ خطته يكون الجزار قد كشف أمره، وكما بدأ الفيلم بمعركة دموية، ينتهي بأخرى أشد عنفا.