باريس- على خشبة المسرح، تطل زاهية زيواني (44 عاماً) بزي أسود أنيق وتمسك بيدها اليمنى عصا تقود بها الأوركسترا الفرنسية المؤلفة من أمهر الموسيقيين. إيماءات وحركات دقيقة تنتج سيمفونية كلاسيكية سافرت بها إلى عالم كثيرا ما عُرف بأنه حكر على النخبة والطبقة الأرستقراطية.
منذ سن مبكرة، برز الحس الفني لقائدة الأوركسترا الفرنسية من أصول جزائرية، بفضل والديها المحبين للموسيقى، وخصوصاً الكلاسيكية منها.
من بيتهوفن إلى أبرز أسماء الأوبرا الأوروبية، تعززت الخلفية الفنية للطفلة المفعمة بالحياة منذ قرارها تعلم الغيتار في سن الثامنة، قبل أن يستقر ذوقها الموسيقي على الفيولا فترة المراهقة، وهي آلة وترية من عائلة الكمان.
انتزاع الفرصة رغم الأحكام المسبقة
وصل والدا زيواني إلى فرنسا عام 1962. تعلم والدها القراءة بمفرده، وكان دائما يستمع إلى الأخبار والموسيقى على راديو “فرانس إنفو” حيث اكتشف سحر الموسيقى الكلاسيكية.
وفي المنزل، كان التنوع الثقافي والفني سيد المكان. كانت العائلة البسيطة تستمع تارة إلى أغاني الفنان الشهير جاك بريل، وتارة أخرى إلى أغاني القبائل الجزائرية.
تقول زيواني، في حوار مع الجزيرة نت “أتيحت لي الفرصة لمقابلة المايسترو سيرجيو سيليبيداش الذي يعد من أعظم الشخصيات في قيادة الأوركسترا في القرن العشرين، ويحلم الجميع بلقائه. لكنه كان صعباً ومتطلباً للغاية، حتى أنه أخبرني أن النساء لم تستطعن الاستمرار في الفصل أكثر من أسبوعين”.
غير أن هذه الشابة الطموحة استمرت في إثبات نفسها لمدة 1.5 عام مع القائد الروماني الذي تلقت على يده تدريبات مكثفة نحتت بداخلها عزيمة أكبر لإدارة الأوركسترا حتى باتت اليوم تقود واحدة من أبرز الفرق الموسيقية في أوروبا، كاسرةً أعراف مهنة تُعد حكراً على الرجال، إذ لا تتجاوز نسبة قادة الفرق الموسيقية من النساء 4%.
تقول زيواني “كوني امرأة ومن الضواحي، ومن أصل جزائري، جعلني أمام أحكام مسبقة على موهبتي الحقيقية، واستبعاد فكرة أنني قد أصبح واحدة من أفضل قادة الفرق الموسيقية في فرنسا، أو حتى في أوروبا”.
وتضيف “كثيرا ما قال لي أساتذتي إن مهنة قائد الأوركسترا ليست مخصصة للنساء” مشيرة إلى أنه في تسعينيات القرن العشرين، كان قائد الفرقة الموسيقية ذكراً وأبيض البشرة وكبيراً في السن”.
وبفضل موهبتها الاستثنائية وعزيمتها التي لم تثبطها أي صعوبات، تمكنت زيواني من قيادة الأوركسترا 4 مرات في قصر الإليزيه، كان آخرها أمام الرئيس إيمانويل ماكرون وزوجته بريجيت.
احتراف عالمي
أنشأت زيواني الأوركسترا الخاصة بها عام 1998، وتعد اليوم فرقة سيمفونية رائدة في فرنسا، إذ تضم عدداً من الموسيقيين الموهوبين والمعروفين، مثل رافائيل بيدو وشاني ديلوكا وساتنيك خوردان وجان مارك وإكسافيير فيليبس، وغيرهم.
تعتبر نفسها “جسراً بين الملحنين والجمهور” وتدعى وفرقتها “ديفرتيمونتو” (Divertimento) لتقديم أكثر من 40 حفلة موسيقية سنوياً على أهم المسارح داخل فرنسا وخارجها.
انفتاحها وتقبلها ثقافات العالم ساعد 70 عازفاً محترفاً في فرقتها على تطوير تفرّدهم الفني، والوقوف عند مفترق طرق يؤدي إلى أساليب موسيقية وتعبيرات فنية متنوعة، فضلاً عن تحقيق أكثر من 150 تعاوناً فنياً على المستوى الوطني.
وبينما تتسارع الاستعدادات لألعاب باريس الأولمبية 2024، تنهمك زيواني، والأوركسترا، مع إيمانويل برتراند على التشيلو، في التحضير لبرنامج مزدوج بعنوان “هايدن/موتسارت” (Haydn/ Mozart) لتقديم كونشيرتو رقم 1 للتشيلو، سيمفونية جوبيتر وقداس التتويج.
إبراز الثقافة العربية
تستمد قائدة الأوركسترا ديناميكية لا تفتر من ثقافة مزدوجة، جزائرية وفرنسية، تحفزها على إدراج نغمات عربية في موسيقاها، مثل العود والقانون والطبلة. ويلاحظ هذا التنوع جلياً في المقاطع الموسيقية التي تقدمها فرقتها “ديفرتيمونتو” التي تسميها زاهية “أوركسترا فنية وثقافية واجتماعية لا تقيدها الحدود”.
شاركت زيواني في حدث “الجزائر عاصمة الثقافة العربية” (عام 2007) مع الأوركسترا الوطنية الجزائرية التي استقبلت قائدة للأوركسترا امرأة للمرة الأولى في تاريخها.
كما كان التوجه نحو إرث البحر الأبيض المتوسط والموسيقى الشعبية والتقليدية جزءاً من هوية الفرقة منذ تأسيسها قبل 24 عاماً، إذ ينسج عناصرها خيوطاً متناسقة بين الأعمال السيمفونية والتيارات الموسيقية الجديدة من خلال إدخال الفنون في حوار يتمحور حول الموسيقى والمسرح والرقص.
وسيشاهد العالم بأسره حياة زيواني على شاشات السينما مطلع العام المقبل، في فيلم يحكي طموحها لجعل الموسيقى السيمفونية في متناول الجميع وإنشائها فرقتها بمساعدة شقيقتها التوأم فطومة، عازفة التشيلو.
دمقرطة الموسيقى
لا يقف عمل زيواني عند المسارح الفرنسية والعالمية فقط، بل يبرز بشكل كبير في رؤيتها الخاصة التي تؤمن بضرورة “دمقرطة الموسيقى التي يمكن أن تكون ثقافة شعبية أيضاً”.
ولهذا الغرض، أنشأت “أكاديمية ديفرتيمونتو للمبتدئين” عام 2008، لتعرّف أجيالاً جديدة من الفرنسيين على هذا النمط الموسيقي، من أطفال وطلاب وعائلات وسجناء ومهاجرين، وفق سلسلة من الأساليب المتنوعة والنشاطات الثقافية.
تقول “البعد الثقافي يجب أن يبقى حاضراً وذا تأثير مهم في حياة الشباب”.
تفخر زيواني بثقافتها المزدوجة، قائلة “أنا فرنسية 100% وجزائرية 100%” وتعترف بأنها نقلت نغمات موسيقاها الكلاسيكية إلى المناطق المهمشة رغم أنها لا تلقى دعماً كافياً من وزارة الثقافة الفرنسية، كبقية المشاريع الأخرى.
ولا تستبعد زيواني خوضها معترك السياسة مستقبلاً “لأن هناك حاجة إلى بذل مزيد من الجهود لمساعدة المهاجرين والعائلات الفقيرة التي تسكن الضواحي، لكنني سعيدة بما أنجزه حالياً. وأنا أؤمن بأنه يجب العمل بجد، وعندئذ يصبح كل شيء ممكناً”.