جاء كتاب تشارلز غريبر عن الدواء والقتل والجنون كصرخة إدانة لنظام صحي يدفع باتجاه التستر على القتل رعاية لمصالح مادية وتجارية، لكن الفيلم استعرض كيف يمكن لامرأة هشة لا تكاد تقوى على الحياة أن تواجه سفاحا قتل وحده عددا غير مسبوق من البشر
يضمن صناع الأفلام الترويج لها قبل صناعتها، وذلك باختيار أفكار وموضوعات جدلية أو صادمة، وتكمن أزمة هذا النوع من الأعمال في انصراف النقد عن حقيقة العمل الفني في مساحاته الجمالية إلى حقائق قادمة من خارجه، ولعل فيلم “الممرضة الطيبة” (The good Nurse) من إخراج الدانماركي توبياس ليندهولم، الذي يعرض حاليا على شاشة نتفلكس ينتمي إلى هذا النوع من الأعمال رغم جودته الفنية.
حقائق من الخارج
الحقيقة القادمة من خارج فيلم “الممرضة الطيبة” مذهلة ومرعبة في الوقت ذاته، ذلك أن بعض المهن تجعلنا تحت رحمة أصحابها، ومن بينها “الممرض” الذي تقع عليه مسؤولية رعاية المريض وتزويده بجرعات العلاج في مواعيدها، وحين يصبح هذا الممرض شخصا غير أمين على المريض، يتحول الأمر إلى حافة الكارثة، لكن حين يكون هذا الممرض قاتلا متسلسلا تصبح الكارثة حقيقة ماثلة.
تدور أحداث الفيلم حول واحدة من أضعف مخلوقات الله على الأرض، أم تعول طفلتين وحدها، وتعمل ممرضة في الدوام الليلي، تخفي سرا عن الجميع، وهو مرضها بضعف في عضلة القلب، وهو ما يجعلها تتعرض لنوبات من الانهيار الجسدي وعدم القدرة على التنفس أو بذل الجهد، وهو ما يؤثر على انتظامها في العمل.
الأزمة المحيرة أن قواعد التأمين الصحي لن تنطبق عليها إلا بعد قضائها عاما كاملا في الوظيفة بالمستشفى، وبالتالي فإن اكتشاف مرضها أو انقطاعها عن الذهاب 6 أيام يعني طردها.
تأتي المساعدة عندما يبدأ تشارلي (الممثل إيدي ريدماين) وهو ممرض جديد العمل في وحدتها، وتنشأ بينهما صداقة قوية. وللمرة الأولى منذ سنوات، تشعر إيمي أنها يمكن أن تؤمن مستقبل بناتها الصغيرات، ولكن بعد سلسلة من حالات وفاة المرضى الغامضة، يظهر أن تشارلي هو المشتبه به الرئيسي، تختار إيمي المخاطرة بحياتها وسلامة أطفالها لكشف الحقيقة.
جرائم بلا دوافع
الفيلم مأخوذ عن كتاب للكاتب والصحفي تشارلز غريبر “الممرضة الطيبة: قصة حقيقية عن الطب والجنون والقتل” أو (The Good Nurse: A True Story of Medicine, Madness, and Murder).
يؤرخ الكاتب لقصة الممرض تشارلي كولين الذي اعترف بارتكاب 29 جريمة قتل خلال عمله في 9 مستشفيات من بين 400 جريمة وجهت إليه التهم باقترافها، ويقضي حاليا حكما بـ 16 مؤبدا في أحد السجون بمدينة نيوجيرسي في الولايات المتحدة الأميركية.
كان القاتل يقوم بحقن أكياس الغلوكوز بأدوية أخرى مثل الإنسولين والديغوكسين، التي كانت تؤدي بدورها للوفاة خلال 24 ساعة.
تسأل الممرضة إيمي زميلها القاتل في زيارتها الوحيدة له بعد حبسه “ما الذي جعلك تقتل هؤلاء الناس.. هل هي طليقتك التي تمنعك من رؤية بناتك، أم أن هناك أزمة ما بينك وبين والدتك؟”
تشارلي: “لا شيء من هذا.. أنا لا أعرف، لكن أحدا لم يمنعني من القتل”
يتساءل الكاتب والفيلم والجمهور والممرضة “إيمي” عن أسباب القتل، لكن تشارلي نفسه لا يعرف، لقد وجد الرجل في نفسه القدرة على القتل، وحين قتل للمرة الأولى لم يمنعه أحد ولم يردعه القانون، فقرر أن يستمر.
يعد الفيلم صرخة حقيقية في مواجهة نظام صحي، يجعل من المستشفيات مؤسسات تجارية تعتمد على سمعتها في استقبال “المرضى” أو “العملاء”، وبالتالي فإن المستشفيات التسعة التي عمل فيها لم تتهمه بشيء، وإنما صرفته من العمل لأسباب شكلية حرصا من إدارات المستشفيات على عدم الوقوع تحت رحمة أحكام التعويض وسوء السمعة.
ظلام تام
ما إن يبدأ الفيلم حتى يتساءل المشاهد عن دولة إنتاجه، فالإيقاع داخل الكادر وإيقاع العمل نفسه من حيث التتابع لا يمكن أن يكونا أميركيين، تلك الحركة البطيئة المتأملة، والظلمة شبه التامة في أغلب المشاهد، وحركة الممثلين، كل هذه الملامح تنتمي للسينما غير الأميركية بشكل مؤكد.
ويزول العجب حين نعلم أن بصمات المخرج الدانماركي توبياس ليندهولم واضحة على العمل، بالإضافة إلى كاتبة السيناريو كريستي ويلسون كيرنز الإنجليزية التي احترفت كتابة السيناريو حديثا بعد تجربتها في كتابة القصة القصيرة.
ولم تأت سيطرة المخرج وكاتبة السيناريو على إيقاع الفيلم فقط لكونهما ينتميان لسينما مختلفة نسبيا، ولكن لأن الفيلم لا ينتمي لتلك الأنواع التي تتطلب حركة سريعة بقدر ما تطرح تأملا وأسئلة شديدة الصعوبة.
لم يستعرض الفيلم جرائم الممرض القاتل “تشارلي كولين” ولم تكن قضية النظام الصحي الظالم الذي يحول المرضى إلى أهداف للربح هي الرئيسية في العمل، وإنما كانت القضية هي الكيفية التي حسمت بها الممرضة المريضة، التي تشعر بامتنان كبير تجاه زميلها وصديقها، قرارها بالإبلاغ عنه ووضعه في السجن.
كان شعورها بالفضل طاغيا، وكان إعزازها الشخصي له كبيرا، لكن كل ذلك لم يشفع له لديها، لجعلها تصمت -على الأقل- وإنما سارعت باتخاذ موقف شريف كان يمكن له أن يكلفها حياتها ووظيفتها.
التحول
استعرض الفيلم تلك التفاصيل الصغيرة وردود الفعل، وبدايات الأزمات القلبية التي تعرضت لها أثناء محاولتها دفعه للحديث عن جرائمه وتسجيل الاعترافات واتخاذها دليلا لإدانته، ثم تصميمها على استكمال المشوار حتى يتم القبض عليه ومحاكمته رغم طرده من المستشفى الذي كان يعمل به زميلا لها.
لم تكن إيمي ترغب في جائزة، ولم تكن في حياتها بهجة من أي نوع، وقد عبر استخدام الألوان تماما عن تلك الحالة باستخدام درجات الرمادي في أغلب المشاهد، والألوان الباهتة في كل مشاهده.
لم يستخدم المخرج إضاءة داخلية بشكل تام سوى في مشهدي الزنزانة التي حبس فيها القاتل، على اعتبار أنها لحظات الحقيقة الوحيدة في العمل.
قدم إيدي ريدماين الممثل الحاصل على أوسكار أفضل ممثل عن فيلم “نظرية كل شيء” 2014 (The Theory of Everything)، دور الممرض القاتل تشارلي كولين بطريقة أداء (السهل الممتنع)، وجاءت تلك البساطة في التمثيل لتضيف للشخصية ذلك البعد المحير لرجل يقتل دون دافع تقريبا، أو لمجرد أن الظروف جعلته يملك تلك القدرة، وكما أن الممرض لم يحاول أن يفلسف قتله للآخرين، لم يحاول ريدماين أن يفلسف الأداء.
بدورها استطاعت الممثلة جيسيكا ميشيل شاستين أن تصور حجم المأساة التي تعيشها كامرأة عاملة فقيرة ومريضة، تنتمي لأكثر الفئات هشاشة في المجتمع بملامح وجهها منذ المشهد الأول.
جاء كتاب تشارلز غريبر عن الدواء والقتل والجنون كصرخة إدانة لنظام صحي يدفع باتجاه التستر على القتل رعاية لمصالح مادية وتجارية، لكن الفيلم استعرض كيف يمكن لامرأة هشة لا تكاد تقوى على الحياة أن تواجه سفاحا قتل وحده عددا غير مسبوق من البشر.