لم يكن مجيء مصطفى الكاظمي “صدفة “الى رئاسة الوزراء بل هي ظروف وعوامل عديدة وفرت فرصة “جيدة” لشخصية لم يكن في “الحسبان” ان يقفز فجأة الى عرش طالما حلم به “شيعة العراق” وتمنوه لقرون طويلة.
ان جميع المناصب التي تسلمها الكاظمي سواء في الارشفة او رئاسة تحرير مجلة الاسبوعية، او رئاسة جهاز المخابرات هي في منطقها العام واحدة، انها لم تضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وهذا لايتمدد على شخص الكاظمي لوحده انما اغلب المناصب بعد عام 2003 شغلتها شخصيات بعيدة عن المهنية ،وهو السبب الاكبر الذي جعل العملية السياسية تنهار بهذا الشكل وتصبح الدولة مجرد هياكل ومؤسسات غير فاعلة ومجدية.
ان اكبر عنوان لانهيار العملية السياسية تجلى في اختيار عادل عبد المهدي لمنصب رئاسة الوزراء، ليس لانه بعيد عن المناصب وعن التاريخ السياسي لابد بل لانه عبر عن تصادم الاردادات وسقوط حمل العملية السياسية الى الارض ،لذا فان انفجار الاوضاع في فترة ادارته بعد عام 2018 ليس هو من تسبب بها، وان كان جزء من تاريخها .
عام 2018 يعتبر التاريخ المفصلي في التجربة السياسية بعد عام 2003، حيث كشفت كل جهة سياسية عن توجهها دون تردد، فيما نجحت الولايات المتحدة وادواتها من دول الخليج ان تقضهم من البيت الشيعي تيارين، فيما انقسم “البيت السني” وفقاً لانقسام الجهات الداعمة له، اي ان الخلاف بين تركيا وقطر من جهة والسعودية والامارات ومصر من جهة اخرى ترك اثره على توجهات “البيت السني” اما احزاب الاقليم فهي الاخرى شهدت تحولات حادة طبقاً للصراع الداخلي والخارجي، فعادت السليمانية واربيل الى خلافهما وكأنهما دولتان في محيط واحد.
التظاهرات والاحتجاجات التي شهدتها مناطق الوسط والجنوب لم تك وليدة لحظاتها فقد تم الاعداد لها من ايام الدورة التشريعية الثالثة وادارة د.حيدر العبادي التي شهدت دخول انصار التيار الصدري بقيادة السيد مقتدى الصدر ومجموعة من النواب من ممثليهم الى البرلمان، وكيف هاجموا مجلس النواب وطردوا من كان فيه وهشموا الزجاج وحطموا الاثاث فيما كان رئيس الوزراء د.حيدر العبادي ينظر الى المشهد ويبتسم.!
الاعداد لتظاهرات الجنوب والوسط تم وفق دراسة وترتيب حيث تم حصر هذه الجغرافية في هذه المناطق بما في ذلك العاصمة بغداد وتمت الاستفادة من الدورات التي كانت تقيمها القنصلية الامريكية في البصرة وكذلك منظمات المجتمع المدني الامريكية وبدعم غير محدود من قبل دول الخليج مالياً واعلامياً، وكان التنظيم دقيقاً والادارة على اعلى مستوى بحيث استخدمت محافظة السليمانية واربيل كموقع خلفي للادارة والمناطق السنية في بغداد كمواقع للتعبئة والتمويل واستمرت هذه الاحتجاجات حتى اسقاط حكومة عبد المهدي التي لم يمض على عمرها سوى عام فقط، وتكون المهمة قد انتهت وعاد من عاد الى وضعه بعد ان تعطلت الدوائر عن العمل وتوقفت الجامعات والمدارس وتعرضت مناطق كثيرة للتخريب والنهب خاصة المحال التجارية والمقار الحزبية.
كانت الاحزاب الاسلامية القريبة التوجه من ايران هي المستهدفة بينما بقيت الحكومة دون اي حراك يذكر وكان التساؤل: اين جهاز المخابرات من عدم الكشف عن مصادر التمويل والتحضير لهذه الاحتجاجات فقد استلمت ادارة الاحتجاجات ملايين الدولارات وكان التعاطي بها علناً!!.
اثبتت احتجاجات الوسط والجنوب فشل الاحزاب الاسلامية (الشيعية) في التاثير على الساحة السياسية والاجتماعية، حيث مع علمها بالمخطط وتفاصيله لم تقو ان تفعل شيئاً يذكر.
ربما كان العراق الدولة العصية على الولايات المتحدة في تطبيق برنامجها بالتمام عليه مثلمافعلت ببقية الدول العربية لذا فان مجيء مصطفى الكاظمي ليس خيارا ً دقيقياً لها وانما كان خيارها الادق هو عدنان الزرفي الذي قضى جلا حياته في الولايات المتحدة ويفخر في انه امريكي الهوى وهو اكثر جرأة ووضحاً في تطبيق المشروع الامريكي فقد نفذ الكثير منه في محافظة “مقدسة” وهي النجف الاشرف.
استفادت الاحزاب الاسلامية من فشل التظاهرات “اريد وطن” من الاحباط الذي اصاب المتظاهرين وهم يرون تضحياتهم تذهب سدى فيما ازدادت نقمة الناس عليهم بعد ان عطلوا الحياة وسفكوا الدماء واباحوا المال والارواح ولم يجدوا سوى حكومة ضعيفة بقيادة شخصية مجهولة ومستشارين منتفعين.!
التياران الشيعيان اللذان سعيا من اجل صناعة حكومة الكاظمي هما “الحكمة وسائرون” كانا يرغبان ان يعلنا ولاءهما اولاً بانهما الاقدر على صناعة الحكومات وثانيهما الاستفادة من هذه التشكيلة التي تصدرها رئيس وزراء “تحت اليد” ووزراء وفق اهوائهما ورضاً امريكي خليجي .جاءت حكومة الكاظمي، كمن يمضغ لقمة مرة في فمه ،حيث لم يتفاعل معها احد من المحتجين ،ولا الشارع العراقي بشكل عام ولا الوسط الثقافي والعلمي ولا رجال الاعمال ولا الكتل السنية التي رأت في حكومة الكاظمي عنواناً للفشل وتسيد “المقاومة” بالقرار كما رأت الكتل الكردية في حكومة الكاظمي انها ضعيفة وليس لها رأس ولا اطراف وغير موثوقة باي شيء وانها “العوبة” بيد تيارين لايمثلان الشيعة ومن الصعب التفاهم معهما.
لم يكن في بال عملاء امريكا ان ردة الفعل على اغتيال الشهيدين ابي مهدي المهندس والحاج قاسم تتحول الى مقاومة مضاعفة وتشكيلات جديدة اكثر باساً وحماساً في استهداف التواجد الامريكي ونفوذه بالشكل الذي جعله يصغر من حجمه يوماً بعد يوم سواء في عدد موظفيه داخل السفارة او في عدد قواته المتواجدة على ارض العراق، وان المسؤولين الامريكان يكررون رغبتهم في الخروج من المنطقة عموماً، لذا فان هؤلاء العملاء باتوا الان في حالة من الارباك خاصة بعد لقاء ممثلة الامين العام للامم المتحدة “ابو فدك” وعقد (الهدنة المشروطة )التي كانت بمثابة اعلان عن قوة المقاومة وكونها جزءً مهماً من القرار العراقي.
التكليف من قبل الولايات المتحدة للكاظمي وحكومته وحاشيته ان يدخل العراق في ازمة اقتصادية للهيمنة على القرار السياسي وتسليم زمام الامور بيده ليكون امام الكتل السياسية اتجاه واحد نحو الانخراط في المشروع الامريكي “الشرق الاوسط الجديد” والذي ملخصه انسحاب القوات الامريكية من المنطقة وانشاء قوة عسكرية بقيادة اسرائيل ومعها مصر والمغرب والسودان وبتمويل خليجي، وبذا فان هذا التكتل سيكون راعياً للممصالح الامريكية بالمنطقة ووضع اي نفوذ اخر للتمدد لكن هذا المخطط بات يصطدم بمعرقلات كثيرة اولها التدهور الذي تشهده الولايات المتحدة على كافة الاصعدة والذي من تجلياته الانقسام الحاد بين الحزبين الرئيسيين الجمهوري والديمقراطي والذي قد يفضي الى انقسام جغرافي وكذلك صعود الصين كقوة عظمى ،والقلق من منطقة المحيط الهادي دون بقية المناطق الاخرى وكذلك شيخوخة اوربا الدائم الاكبر لامريكا ناهيك عن صعود اليسار في العالم والتذمر من الساحة الامريكية في وقت بدأت الممقاومة تتصاعد في مناطق عديدة من الشرق الاوسط. بالقدر الذي يتحرك فيه الكاظمي وحكومته باتجاه تنفيذ المشروع الامريكي وصفقة القرن ومحاولات الافلات من اي علاقة للعراق مع ايران والصين وروسيا والذهاب الى مصر والاردن ودول الخليج ومحاولة اخفاء تحركاته الا انه بات يعلم ان الصراع مع (المقاومة) يهدد مصير حكومته وانه بات بلا اجنحة يحلق بها بعد ان تخلى عنه الجميع بما في ذلك من جلبه للسلطة.
الكتل السياسية حتى الان لم تحسم موقفها للانتخابات المبكرة ولم تصالح جمهورها ومازالت تعمل بذات الادوات القديمة “-اعني جميع الكتل السياسية التقليدية” -فيما تجاوز عدد الاحزاب لدى المفوضية للمشاركة بالانتخابات المقبلة حتى الان “400” كتلة وحزب ومازال الحبل على الجرار، ونسأل كيف للاحزاب ان تصالح جمهورها وتركز شخصيتها وهي الى الان عاجزة عن الوصول الى مكاتبها التي طالها الحرق والهدم لاعمارها ؟
بامكان اصحاب العقول وذي الرأي تقديم “النصح” للاحزاب والكتل السياسية “التقليدية” ولكن ذلك يوقعهم في دائرة الشك لسببين، الاول انهم يشاركون بعودة الفاشلين الى السلطة والثاني حرمان الاحزاب والشخصيات ذات اليد النظيفة والرؤية الوطنية عن ادارة البلد.